صوره لمقام النبي شعيب عليه السلام في حطين شمال فلسطين حتى سنة 1962 بني معروف العرب المسلمين الموحدين الدروز الشيخ سلمان عنتير - "الوطنيه والقوميه"لنصرة سوريه
www.bnemaroof-drooz-abusafi.com
الموقع على اسم الشيخ سلمان عنتير (مستقل )
رئيس فعاليات وطنيه وقوميه- الموحدون عرب الداخل
للدفاع عن حقوق الامه العربيه والاسلاميه
وتدعو للسلام الشامل العادل- وللتفاهم بين الشعوب
امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة صرح سلطان باشا الاطرش القئد العام للثوره السوريه الكبرى في القريا جبل العرب سوريهمقام سيدنا هبيل عليه السلام في سوريه
الاقصى الشريف في القدس في زياره مع المشايخ الموحدين بكل فخر واعتزاز
بعد ما حدث الكثير الغير مرضي ولا يتلائم مع المنهج, لذلك يؤكد الشيخ سلمان عنتير ان كل من يقوم بعمل لا يتناسب الاتي سيتحمل المسؤوليه: وان الموقع والفسبوك والعمل في الانترنيت هو فقط على اسمه" وهناك اداره" والمنهج كرجل دين فقط- وهو مستقل الانتماء والمواقف, وهو ليس منتسب لأي حزب او هيئه او لجنه اوحركه او لجان تواصل اي كانت عربيه او عير ذلك, ولا يسمح لأحد كان ان يمثله او يستعمل اسمه او يتحدث بمكانه او ينطق باسمه, او باسم فعالياته حتى لو كانت من هيئات او للجان شعبيه او تضامنيه ايت كانت اوغير ذلك, وعلاقته او مشاركته هي بما يتناسب مع امر الدين اولاَ والمذهب والانتما للهويه العربيه وللمواقف الوطنيه والقوميه ويتناسب مع فعالياته وهو يؤكد انه المسؤول عن الفعاليات المشار اليها المعروفه والوارده في باب هذا الموقع الذي على اسمه ويشدد التأكيد بشرط ان يكن كل امر لا يتعارض مع المصالح السوريه الابيه- وهو المتحدث فقط باسمه وباسم فعالياته , والله ولي التوفيق
. بشارة: لا أتحكم بالتجمع عن بعد وعلينا ان نرى ايجابيات وجودي في المنفى
بشارة:
* إنّ عناءَ المنفى ـ في حالتي كعربيّ وكفلسطينيّ وكمثقّف ـ وطنٌ هو أيضًا..
* أنّ ما يَنتج من تسليم نفسي في هذه الظروف ضررٌ يصيب الحركةَ الوطنيّة، وهو غباء..
* "اتّحاد الشباب الديمقراطيّ" ضاعف قوّتَه على الرغم من تعرّض ناشطيه للملاحقة..
* لا أقول إنّ خروجي أمرٌ ممتاز، لكنّ علينا أن نرى أيضًا إيجابيّاتِ المنفى..
* توقّفنا عن التواصل لنتجنّبَ تهمة أنّني "أدير الحزبَ من الخارج" ـ وهذا غيرُ صحيح..
* برنامج الحزب الشيوعيّ كان في حدّ ذاته، مشكلة! فقد تضمّنَ دولةً يهوديّةً ودولةً فلسطينيّةً، ولم يعرِّفْ مفهومَ المساواةِ في دولة المواطنين، ولم يعرِّف الحقوقَ القوميّةَ للعرب كسكّانٍ أصليين..
* في حالة العيش في الداخل، نعم هنالك تناقضٌ بين الهويّة العربيّة الفلسطينيّة في حدّ ذاتِها وبين الواقع
________________________________________
نشرت مجلة "الاداب" اللبنانية بقلم مراسليها سَماح إدريس ويُسري الأمير، مقابلة مطولة مع د. عزمي بشارة، تم التطرق فيها الى عدد من القضايا المتعلقة بملاحقة د. بشارة، ثبات واستمرار حزب التجمع الوطني الديموقراطي، ملاحقة نشطاء اتحاد الشباب، الحزب القومي ومواضيع شتى تنوعت بين السياسي والثقافي، فيما يلي مقتطفات من الحوار.
حين التقينا والدكتور عزمي بشارة في ردهة الفندق، كان الرجل يغطّي الكثير من تعبه بلطفه وحسن استقباله. وهذا ما رافقه في حوار الساعتين في غرفته: فالتعب يكدّ الوجه الأسمر، وينافس أخضر العينين، لكنّ ذلك لم يمنعه من الخوض في النقاش، ولم يوقف حدّة الفكر ودقّة الملاحظة، لتكون النتيجة هذا الحوار الطويل ـ القصير: فقد كان طويلاً لأنّ بشارة استفاض في تقديم مفاهيمه حول القضايا القوميّة والعروبة ونضال فلسطينيي الداخل وتجاربه الذاتيّة وافق المستقبل؛ ولكنّه كان قصيرًا لأنّ الوقت لم يسعفْنا للحديث مع عزمي الأديب والروائيّ. أُنهيَ الحوار ولم ينتهِ؛ فمن الصعب أن ينتهي نقاشٌ مع أمثال هذا الإنسان المجبول بالثقافة والنضال والناس والأمل.
* د.عزمي، أرحّبُ بكَ في بيروت، وشعوري هو أنّك أنتَ مَن يرحّبُ بنا في وطنِه الكبير الذي يحمله معَه. وأعتمد على هذه الرحابة لأسألَكَ بدءًا من النهاية: متى ترى العودةَ إلى الوطن؟
- أتوق إلى العودة طبعًا، ولكني لا أرى أفقًا في الوقت الحاليّ لأنّ الظروف التي دعتْ إلى الخروج من الوطن ما زالت قائمةً، بل تفاقمتْ؛ وبات الأمرُ أكثرَ وضوحًا منذ خروجي، من حيث نوعُ التهم المَحُوكة الموجّهة إليّ. إذا تغيّرتْ هذه الظروف، تُمْكِن دراسةُ الموضوع؛ فالأمرُ ليس خيارًا، بل قرارٌ بأنْ أسلّم نفسي لمخططٍ واضح دونما فائدةٍ تُرجى من ذلك. على كلّ حال، سأَبدأُ، مثلَكَ، من النهاية، فأقول إنّ مفهومي للوطن أوسَع، وإنّ عناءَ المنفى ـ في حالتي كعربيّ وكفلسطينيّ وكمثقّف ـ وطنٌ هو أيضًا.
*الأمر مرتبطٌ إذًا بوقف الملاحقة القضائيّة لا غير؟
- ... بوقفها وتغيير طابعها. فقد كنتُ في السابق مُلاحَقًا قضائيّاً، وتعرّضتُ للمَحاكمَ، لكنني بقيتُ. غير أنّ هذا النوع من التُهم ـ التي توجَّه من دون أيّ أساسٍ أو أدواتٍ للتعامل معها لكونها تُهمًا أمنيّةً خارجةً عن قواعد المعركة السياسيّة القضائيّة المُمكِنة في النضال السياسيّ ـ لا يَترك لي مجالاً للبقاء. والحقّ أنني لا أرى أيَّ فائدةٍ في تسليم نفسي كما ذكرتُ؛ بل على العكس: فكلُّ سجينٍٍ أمنيٍّ أعرفه (أكان "بريئًا" في لغتهم أمْ "مذْنبًا") لم يسلّمْ نفسَه أو لا يسلّم نفسَه. وفي اعتقادي أنّ ما يَنتج من تسليم نفسي في هذه الظروف ضررٌ يصيب الحركةَ الوطنيّة، وهو غباء. وأما ما نتج من خروجي من المؤسّسات التي أقمناها، فقد بدا بفضله وكأنّني تنحّيتُ جانبًا؛ وهذا ما يُفترض أن يفعلَه القادةُ في حياتهم وإنْ كانوا مُؤسِّسين! وبخروجي أُعطِيتِ الفرصةُ لٍـ "التجمّع" بأن يستمرَّ، وللمؤسّسات بأن تنمو. إنّ جدليّةَ الأمور وصيرورتَها أثبتتا أنّ الحركة الوطنيّة ليست حركةً مُشخصَنة. لقد كنتُ أتمنّى، وأنا داخل الوطن، أن يحصل ما حصل الآن؛ وسبق أن طلبتُ التنحّي عدّة مرّاتٍ عن الترشّح للبرلمان على الأقلّ، إذ قمتُ فيه بكلِّ ما يمْكن، وباتَ يستنزفني. لكنْ لم يوافقني أحدٌ من الحركة الوطنيّة خشيةَ "الإسقاطات." وها قد جاء "التنحّي،" ولم تحصل "الإسقاطاتُ" التي كنّا نخشاها، بل حدث عكسُ ذلك: استنفارٌ للحفاظ على الحركة. وهذا يدلّ على أنّ حركتنا نضجَتْ ووقفتْ على رجليها.
أنا مسرور لأنّ هذا الأمرَ تمّ في حياتي، وبنجاح، وهو في الواقع ما كنتُ أدعو إليه طوال الوقت: بناءُ المؤسّسات، على الضدّ من نزعة "النجوميّة الفرديّة" (التي يشجّعها الجمهورُ قبل أن يلومَ القادةَ عليها). ومن هنا أعتبر أنّي نجحتُ في امتحان الجيل المؤسِّس: أيَعْمل ليخلّفَ مِن بعدِه جيلاً يحْمل الرايةَ، ومؤسّساتٍ تحافظ على النهج والناس، أمْ لا؟ وفي هذا الوضع أتيحت لي أيضًا فرصةُ الاستمرار في العطاء الفكريّ والأدبيّ.
* وكيف تجسَّدَ نجاحُ "التجمّع الوطني الديمقراطيّ" بعد غيابِك؟ هل زاد عددُ نوّابه مثلاً؟ هل تطوّر المردودُ الثقافيّ والمادّي لبعض مؤسّساته؟
- كان خصومُ "التجمّع،" بل بعضُ أصدقائه كذلك، يتوقّعون أن ينهار. لكنّه لم يحافظْ على وجوده وحسب بعد خروجي، بل زادَ أصواتَه أيضًا، على الرغم من تعرّضه لحملة تحريضٍ وتخويف لم يسبقْ أن تعرّضتْ لها أيّة حركة سياسيّة في الداخل. هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، وبعد معارضة البعضِ لرأيي في تحصين وضع المرأة في "التجمّع" وتثبيت حضورها في قوائمه الانتخابية النيابيّة والبلديّة، تمّ تبنّي هذا الأمر في غيابي وبناءً على اقتراحي، إذ تمّ انتخابُ امرأةٍ من "التجمّع" للبرلمان؛ كما تمّ تحصينُ ثلث المواقع بالحدّ الأدنى للنساء. أضِفْ إلى ذلك أنّ "اتّحاد الشباب الديمقراطيّ" ضاعف قوّتَه، وتضاعفتْ أعدادُه، على الرغم من تعرّض ناشطيه للملاحقة في فترة غيابي. ثم إنّ المؤسّسات الحزبيّة ناشطة، وقد عُقد مؤتمرٌ حزبيّ واحدٌ على الأقلّ...
* وهل تواصلتََ مع المؤتمر؟
ـ ... مع المؤتمر الأوّل بعد خروجي فقط، وقد كان تنظيميَّ الطابع. ولكنّنا توقّفنا عن التواصل بعد ذلك لأنّنا أردنا أن نتجنّبَ تهمًا من نوع أنّني "ما زلتُ أدير الحزبَ من الخارج" ـ وهذا غيرُ صحيح، وليس في نيَّتي أصلاً: أولاً لأنّه خطأ؛ وثانيًا لأنّني لا أستطيع ذلك من الخارج؛ وثالثًا كي لا يُمنع الحزبُ من العمل! بالطبع، التواصلُ بيننا مازال موجودًا فكريّاً وسياسيّاً وغير ذلك، لأنه مبنيٌّ على روابطَ مبدئيّةٍ لا تتزعزع.
في العمل السياسيّ التنظيميّ يَصْعب في فترة الـ"مؤسّسين" أن يَبرز "الآخرون." وفي المؤسّسات والشركات عادةً لا يتمكّن مديرٌ عامٌّ جديدٌ من إدارتها فعلاً، ما دام مديرُها العامُّ القديمُ موجودًا فيها. هذا الأمر لم يحصل في "التجمّع،" وأنا سعيدٌ بذلك، إذ أرى أنّه لم يكن مُتاحًا بروزُ الشباب بشكلٍ جدّيٍّ إبّان وجودي في الداخل، على الرغم من فسحي المجال أمامهم بشكلٍ واعٍ. لا أقول إنّ خروجي أمرٌ ممتاز، لكنّ علينا أن نرى أيضًا إيجابيّاتِ ما حصل وإيجابيّاتِ المنفى.
* لو أردتَ التنحّي خلال وجودكَ هناك، ما كانوا سيقبلون ذلك أصلاً...
- صحيح، ما كان ذلك مُمكنًا.
* ما السبب الذي جعل هذه التجربة الحزبيّة تنجح كمؤسّسة، في حين فشل العديدُ من التجارب المؤسّساتيّة في العالم العربيّ؟
ـ أتصوّر أنّ الناحيةَ الذاتيّة المتعلّقة بنوع الناس المنضوين في هذا النشاط كانت هي الأساس. إنّ منْ يتّخذ قرارً الانخراط في عملٍ حزبيّ، إبّان صعود انتماءاتٍ عضويّةٍ وشائجيّةٍ وطائفيّةٍ وعائليّة، هو شخصٌ مُنتقًى بالضرورة؛ ففي فترة "أفول الإيديولوجيّات،" وتراجُعِ فكرة التنظيم الحزبيّ الطوعيّ وكلِّ فكرة الأحزاب، وصعودِ فكرة "المنظّمات غير الحكوميّة" في أوساط اليسار، وابتعادِ المثقّفين عن السياسة وكأنّها صارت حكرًا على الحركات الإسلاميّة... في هذه الفترة بالذات لا بدّ أنْ تكونَ نوعيّةُ الناس التي تنخرط معك في هذا النوع من العمل نوعيّةً مميّزةً نسبيّاً.
وفي المقابل، فإنّ الظروف الموضوعيّة للأفراد عندنا لا تختلف عنها في أيّ بلد عربيّ. كما أنّ الثقافةَ السياسيّةَ القائمة، والمتمثّلة في الانصياع إلى القائد والزعيم، والمَيْلِ إلى تحويل الحزب إلى جماعةٍ أهليّةٍ تشْبه الطائفةَ أو العائلة، كلّ ذلك موجودٌ أيضًا عندنا. لكنّ هناك مجموعةً أخرى من التجارب التي نجحتْ نتيجةً لمقدار الجهد المبذول ووعيِ الفرد المسؤول بالاستمراريّة، على عكس قاعدة "ومن بعديَ الطوفان." والمدعوّون إلى القيام بهذه المهمّة يتعرّضون لإغراء إهمالها: فهي تكلِّف جهدًا ووقتًا وأعصابًا وانخراطًا في التفاصيل، وتُبعدُ المرءَ عن أشياءَ يحبّها، ولا تعطي مردودًا معنويّاً مباشرًا، بل هي ما نسمّيه "عملَ النملة" الذي لا يُنتج فكرًا ولا يَظهر للإعلام عادةً. إنّ الساعات التي تُمْضيها في بيتك وبيوتِ النشطاء تناقش وإيّاهم قضايا حزبيّةً تحضيرًا لمؤتمر، أو تصْرفها في اجتماع فرعٍ في قريةٍ أو بلدة، كلّ ذلك لا تراهُ في الإعلام. وإنّ الوقت الذي تستثمره في مثل هذا النشاط التنظيميّ هو خيارُكَ الذاتيّ كمثقف؛ والخيارُ الذاتيّ الحرّ هو الأساس لأنْ لا عملَ سياسيّاً أخلاقيّاً في هذه الظروف بلا تضحية. فكلُّ الناس، كما ذكرتُ، يمْلكون مَيلاُ إلى الزعامة، وإلى تحويل التنظيم إلى رابطةٍ عصبويّةٍ كالعائلة، وكذلك عندهم المَيلُ إلى القمع؛ بل إنّ هذا المَيل قد يوجد عندنا بدرجاتٍ أكبر لأنّ واقعَ عرب الداخل ـ في اعتقادي ـ أقلُّ مدينيّةً (لأسبابٍ موضوعيّة) من باقي المجتمعات العربيّة، إضافةً إلى أنه بقي معزولاً عن تفاعل التيّارات السياسيّة والفكريّة التي عصفتْ بالحداثة العربيّة.
*تتحدّث عن "الميْل إلى الزعامة" وكأنّها نزوعٌ فرديٌّ فقط. ألا ترى أنّ "الشعب" لا يرضَى من مسؤوله إلاّ أن يكون "زعيمًا ونجمًا ومالكََ الحكمة..."؟ وكيف التحصّن من هذه النزعة؟
ـ سأجيب باختصارٍ لأنّ هذا السؤال فلسفيٌّ وفكريٌّ واجتماعيّ. صحيحٌ أنّ الشعبَ يكرِّس هذه النزعةَ بالميْل (الموروثِ عن الثقافة الدينيّة) إلى المخلِّص والخلاص، وبالميل إلى إعادة إنتاج علاقة الرَعِيّة بالراعي أو الحاكم (التي هي من مخلّفات الدولة السلطانيّة). لكنّ ما ضاعف هذا كلَّه هو عبادةُ المشهد الإعلاميّ وتسويقُه السياسيّين وكأنهم نجومٌ أشبهُ بلاعبِي كرة القدم والفنّانين. أمّا بالنسبةِ إلى التحصين الاجتماعيّ ضدّ هذه النزعة، فللنقد والنقد الذاتيّ وللنخبةِ الواعيةِ ضدّ ثقافة القطيعِ دورٌ أساسيٌّ في هذا التحصين. وقد يكون الأمرُ مثلاً بالمطالبة بمواقفَ وبرامجَ وشرحٍ وتحليلٍ، لا بابتساماتٍ وشعاراتٍ وديماغوجيا و"سياساتِ هويّة." طبعًا لا شيء سلبيّاً في الكاريزما القياديّة التي تُسْهم في تعبئةِ الناس إذا كان الموقِفُ الذي تخدُمه صحيحًا. ولكنْ يجب فضحُ الكذبِ والديماغوجيا حتّى عندما يكرِّس الإعلامُ الزعماءََ نجومًا، بل بالذاتِ عندما يفعل الإعلامُ ذلك لأنّ الكذبَ في هذه الحالة بنيويّ.
أمّا القائد فيحصِّنُ ذاتَه بأمرَين: الأوّل، بعدم تعويق بناء المؤسّسات، بل بالإسهام في بنائها واحترامها؛ وثانيًا بالمعرفةِ التي تضعُه في السياقِ التاريخيّ، وتنوِّرُه، فيدركُ حجمَه الحقيقيّ بدلاً من الاستماعِ إلى المُرائِين. وتُمكن هنا إضافةُ عاملٍ ثالثٍ، وهو وجوبُ تمتّعِ القائد بروحِ الدعابة والتهكّم الذاتيّ: فمَن يأخذْ نفسَه بجديّةٍ قاتلةٍ لا يتمتّعْ بروح النقد الذاتيّ؛ والأمور التي تبدو لبعضِ القادة جدّيّةً جدّاً ـ فيعبسون في حضرة المَقام والمناسبة، ويستعرِضون حرسَ الشرف، ويسيرون ويتكلّمون بشكلٍ غريب ـ تبدو لمَن يتمتّعُ بروح الدعابة والسخريةٍ أمرًا مثيرًا للضحك، بل مفزِعًا من شدّة سخفه!
* يحيّرني يا عزمي سؤال: كيف تجد الوقتَ للخوض في كلّ ذلك الجهد الحزبيّ المتواصل؟
- كنتُ في الحزب الشيوعيّ في بدايات الشباب؛ والأحزابُ الشيوعيّة تزوِّدكَ بتجربةٍ كبيرةٍ بالمعنيين السلبيّ والإيجابيّ. فبالمعنى السلبيّ، يصْعب أن تتحرّر من أسلوب العمل اللينينيّ، ولا بدّ أن تتحرّر من تحويل الإيديولوجيا إلى تديّنٍ وحتميّاتٍ قد تُفقِدك الحُكمَ الأخلاقيّ الحرّ على الأشياء ـ وهذه كارثةٌ حقيقيّةٌ على عقليّة الناس وثقافتهم. أمّا بالمعنى الإيجابيّ، فإنّ هذه التجربة تزوّدكَ بالحدّ الأدنى من أصول قواعد الانضباط وعمل المؤسّسات. إذًا، هذا النشاط لم يكنْ غريبًا عنّي لأنّني انخرطتُ فيه منذ الشباب، وبالتالي لم أحتَجْ إلى تعلّمه من البداية؛ والخبرة توفّر وقتًا كما تعْلم.
*ألاحظ أيضًا أنّ مواقفك لا تعبّر عن "ثقافةٍ" وحسب، كما قد نجد عند إدوارد سعيد مثلاً. نقرأ إدوارد فيتّضح لنا عمقُ ثقافته، وتراكمُ القراءات من خلفها؛ ونقرأك فنشعر ـ إضافةً إلى ذينك العمق والتراكم ـ بوجود مُحاوِرٍ أمامكَ: تجيبه وكأنه يسألكَ من دون أن نقرأ سؤاله، وتناقش أفكارَه المتغلغلة في ثنايا ما "تجيبه" به. الكتابة عندك تنطلق من حواراتٍ ونقاشاتٍ حزبيّةٍ وغير حزبيّة جَرَتْ بالتأكيد، لا من كتبٍ قرأتَها وحسب.
- حبّذا لو تجنّبْنا المقارنة! أقرأُ كثيرًا، وبلا توقّف، وبعدّة لغات. ولكنّ التجربة الحياتيّة، لا القراءات وحدَها، تشكّل مصدرًا لمواقفي هي الأخرى. ، عندما كنتُ أكتبُ مقالاً أسبوعيًّا كنت أُنتجُ كتبًا أيضًا، وأعمل في مؤسّساتٍ عديدة (حزبيّةٍ وغير حزبيّة)، وأنشطُ برلمانيّاً. مَنْ عرفني في قطاعٍ واحٍد من هذه القطاعات لم يخطرْ في باله أنّني أعمل في الأمور الأخرى. وهذا الأمرُ أفادني، لكنه أضرّ بي في الوقت ذاته: إذْ كان من الصعب في الأماكن المختلفة هذه أن تُقبَلَ كما أنت، كما أنّ علاقاتي المتعدّدة بعوالمَ متباينةٍ غيرِ متواصلةٍ بالضرورة عقّدتَْ حياتي فعلاً. إنّ إدراك أهميّة العمل السياسيّ ناتجٌ من تجربةٍ سياسيّةٍ طبعًا، كما أنّه ناتجٌ من إدراكٍ فكريّ وأخلاقيّ. ولكنّك لا تستطيع أنْ تقومَ بعملٍ سياسيّ من خلال المقال وحده؛ كما أنّه لا يسعكَ أن تقومَ بذلك من خلال جمعيّاتٍ مموَّلةٍ بموجب أجنداتٍ غربيّةٍ تعْمل على تخريب البديل الديمقراطيّ في مجتمعاتنا وتتركَ العملَ السياسيّ للحركات الدينيّة. أنت بحاجةٍ إلى تيّار سياسيّ منظّم؛ وهذا أمرٌ صعبٌ ومستهلِكٌ للوقت؛ كما أنّ التعامل مع كافّة الأمور الشخصيّة وطموحات البعض وتوقّعاتِهم الفرديّة أمرٌ منهك. ولا تستطيعَ أنْ "تمنّنَ" الناسَ يوميّاً بأنّك تقوم بعملٍ سياسيّ (علمًا أنه طوعيّ)، وأنّك لهذا لا تستطيع أن تذهبَ إلى مكتبة الجامعة يوميّاً مثلاً. عليك أنْ تقبلَ بوضعك، فتقتنعَ بأنّ هذه المهمّةَ (السياسيّة مثلاً) هي عملٌ بدوامٍ كامل، وأنّ المهمّة الأخرى (الثقافيّة) هي أيضًا عملٌ بدوامٍ كامل، فكأنّك عاملٌ يعْمل بوظيفتين أو ثلاثٍ ليُعيلَ أسرتَه.
في السنوات الأولى كان العمل التنظيميّ يستهلكُ الكثيرَ من الوقت. لكنّه صار أخفّ لاحقًا، وبشكلٍ تدريجيّ. وفي آخر سنتين من وجودي في "البلد" بات العملُ الحزبيّ والبرلمانيّ أقلّ، وكان واضحًا أنّني أسلّم الكثيرَ من المسؤوليّات إلى قياديين آخرين. والوقت والتجربة هما اللذان سيُثبتان مَبيرًا)، فقد كنتُ ألاحظ فعلاً أنّ ما يقوله مبنيٌّ في الأساس على القراءة. أمّا حين نصل إلى السياسة، فقد كان ما يقوله لا يخلو من سذاجةٍ تتضمّن تكبّرًا وتعاليًا تنويريّاً يشْمل الاعتقادَ بأنّ قولَ الأشياء الصحيحة هو ما يجعلُها تحصل بشكلٍ آليّ. وذلك أشبهُ بالتبشير، بل هو أقلُّ منه: فالواعظُ أو المبشِّرُ أكثرُ تسييسًا لأنّه يخاطبُ جمهورًا ويتفاعلُ معه؛ أمّا في حالة السذاجة السياسيّة فيكادَ مَن يمارسها يعطي أوامرَ و"علاماتٍ" للواقع خطأً أو صوابًا. إنّ هذا الموقف لا يقلّلُ من أهميّة فكر إدوارد سعيد وثقافته، لكنّنا كنّا نشعر [بما ذكرتُه سابقًا] في حديثنا إليه أو عندما يكتب المقالات السياسيّة.
هنا أيضًا أُشير إلى مَيل البعض إلى التعامل مع إدوارد وكأنّه مثقّفٌ عربيّ يعيش في المهْجر (الولايات المتحدة). غير أنّ هذا لا ينطبق عليه في واقع الأمر، ولا ينطبق عليه تعبيرُ "السباحة بين الثقافات" لأنّ ثقافتَه غربيّةٌ في الأساس. فلو كان إدوارد في فلسطين ما كان سيكتفي بالمثقّف الذي عرفناه. ولكنه كان ذا دور عظيم كمثقّفٍ أميركيّ. ومن ناحيةٍ أخرى، فلو كان مثقّفًا عربيّاً في الأساس، لضمّن الاستشراق كمّاً أكبرَ من القراءات العربيّة والثقافة العربيّة، وزاويةَ نظرٍ أخرى، وربّما كان سيكون أكثر تقديرًا لجهد بعض المستشرقين وإنْ حافظَ على المنطلق القِيَميّ والمنهج النقديّ نفسه من الاستشراق. لكنْ، وكما أنّ أحدَ جوانب النقص فيه هو عدم الاطّلاع الكافي على الثقافة العربيّة الإسلاميّة، فإنّ إحدى إيجابيّاته ومصادر قوّته هي أنّه كتب ضمن الخطاب الجامعيّ الغربيّ وفي نقده في آنٍ معًا. أما أنا فمثقّفٌ عربيٌّ فلسطينيّ، ومع ذلك فإنّ الامتحان لكتاباتي الفكريّة يجب أنْ يخضعَ لمقاييسَ فكريّةٍ ونظريّة، لا لأمورٍ أخرى. وهذا ما آملُه. فكتابي، مساهمة في نقد المجتمع المدنيّ، صدرَ قبل دخولي ساحةَ العمل الحزبيّ البرلمانيّ، واستُقبِل بحفاوةٍ بالغةٍ من قِبل المختصّين بتاريخ الفلسفة والأفكار السياسيّة.
* إذًا، عندما اضطررتَ إلى الانخراط في العمل الحزبيّ اضطررتَ إلى تأسيس حزب.
- صحيح. كان علينا أنْ نبدأ كلّ شيءٍ من جديد. وطبعًا شكّل هذا تحدّيًا هائلاً، ولكنّه ليس مخيفًا. وأنا أسرد أفكاري هنا ولديّ فكرةٌ عمّن يقرأ الآداب، وأُحسِنُ الظنَّ بكيفيّة تتقييم جمهورِها لما أقول. لقد اضطررْنا إلى تأسيسِ حزبٍ وأنْ نبدأ من جديد. وكنّا نحتاج الى تأسيس مركزِ أبحاث، فأسّسناه؛ وإلى إنشاء صحيفةٍ، فأنشأناها؛ وإلى بناء جمعيّاتٍ متخصّصة (معروفةٍ حاليّاً) وغيرِ خاضعة للشروط الغربيّة وتكاد لا تتلقّى تمويلاً، فبنيناها. وقد حدث ذلك منذ بداية الانتفاضة الأولى، ومنذ أنْ بدأتُ التدريسَ في جامعة بيرزيت. فكما ترى لم نولدْ أبناءً لقادةٍ حزبيين أو سياسيين، ولم نولدْ وعندنا صحيفةٌ أو مؤسّسات. لم تكن موجودةً، فكان علينا أن نُقِيمها.
* ما هو البرنامج الذي لم تلاقِه في الحزب الشيوعيّ وأوجدْتَه في "التجمّع"؟
- البرنامج في الحزب الشيوعيّ كان، في حدّ ذاته، مشكلة! فقد تضمّنَ دولةً يهوديّةً ودولةً فلسطينيّةً في الضفّة والقطاع (وهذا الطرح نفسُه جاء متأخرًا)، ولم يعرِّفْ مفهومَ المساواةِ في دولة المواطنين، ولم يعرِّف الحقوقَ القوميّةَ للعرب كسكّانٍ أصليين، واعتبرَ نفسَه في دستوره "حزبَ الوطنيّة الإسرائيليّة والأمميّة البروليتاريّة،" وغير ذلك من الأمور.
لكنّ المشكلة مع الحزب الشيوعيّ لم تكنْ في البرنامج فقط. ففي مرحلةٍ مبكّرة من شبابيٍ، قرّرتُ أنّني لم أعُدْ مستعدّاً للبقاء فيه، ولو لم تسمحِ الدولةُ الإسرائيليّةُ لحزبٍ آخرَ بأن ينظّمَ نفسَه. فلقد وصلتُ إلى قناعةٍ عميقة، وهي أنّ الفَرقَ بين النظام الشيوعيّ والأنظمة الشموليّة الأخرى ضئيل؛ إنّه فَرقٌ في القِيَم الأصليّة التي تآكلتْ، لا في الممارسة. كما أنّ الادّعاء بأنّ القيمَ يمْكن أن تخدمَها الأساليبُ نفسُها ـ وإنْ كانت قيمَ سعادةِ الإنسان ـ يُنشئُ نظامًا شموليّاً مُماثلاً. ومع الستالينيّة، عَمَّرَ هذا الادّعاءُ مدّةً أطولَ، ولعب دورًا أخطر، وأدّى إلى ضحايا يفوقون ضحايا النازيّة التي لم تستطعْ أنْ تنشئَ دينًا جديدًا واختفت كأنّها لم تكن. وكما ذكرتُ، فإنّ الجاذبَ لشابٍّ مثلي إلى الشيوعيّة قد كان القيمَ الأصليّةَ التي على أساسها قامتِ الإيديولوجيا الشيوعيّة، فماذا يتبقّى منها في ما سمّاه لينين "الشيوعيّةَ العلميّة" ثم في الدولة الشموليّة؟!
* لكنّ هذا قد ينطبقُ على القوميّة، فأنتَ...
- لا، هذا ينطبق على التيّارات الفاشيّة! كما أنّ ما قلتُه آنفًا لا ينطبق على الماركسيّة، بل على الأحزاب الشيوعيّة. هناك نقاشٌ فكريّ مع بعضِ تيّارات الماركسيّة، لكنّ الماركسيّة لا تشكّل مشكلةً من هذا النوع، وتبقى بالنسبة إليّ أحدَ المصادر الفكريّة الرئيسة، ولا سيّما في النظريّة الاجتماعيّة وفي نظريّة التاريخ. غير أنّ الشيوعيّة كادت أنْ تكوِّن دينًا جديدًا؛ وهذا ما لم تنجحِ النازيّةُ فيه: فقد بقيتْ محاولاتُها لإقامةِ دينٍ جديدٍ موضوعًا للسخرية، وهنالك دراساتٌ تبيّن أنّ التوتاليتاريّة لم تدخلْ في عمق الحياة اليوميّة في ألمانيا، وقد هُزِمَتْ في النهاية ولمْ تتركْ أثرًا. وأما النظام الشيوعيّ، فلأنّ قِيمَه (كالمساواة والحريّة) أرقى وذاتُ صبغةٍ كونيّة، فقد دام فترةً أطول، وانضمّ إليه الكثيرون للأسباب الصحيحة، ومنهم مَن قضى في سيبيريا وغيرها، ومنهم مَن عاش في الغرب والعالم الثالث، لا في ظلّ الأنظمة الشموليّة ذاتها، فكان لديه هامشٌ لخداع الذات حول ما يجري لأنّه لم يعش في ظلّ هذه الأنظمة.
كان ذلك استنتاجي المبكّر كشابّ، إذًا. وقد اعتمدتُ في سبيله على قراءاتي لماركسيين مثل روزا لوكسمبورغ ولوناتشارسكي، وعلى محاكمات بوخارين، ثم كتابات آيزيك دويتشر عن الستالينيّة، وكتاباتِ آخرين في نقاشهم مع لينين، ثم قراءاتي لـ "مدرسة فرانكفورت" ولا سيّما هوركهايمر وماركوزه، وعلى نقاشاتِ روجيه غارودي مع المكتب السياسيّ للحزبَ الشيوعيّ الفرنسيّ قبل أن يتركه. ثمّ جاءت تجربتي في ألمانيا الشرقيّة، فوجدتُ النظامَ، بلا مبالغة، أسوأَ ممّا استنتجتُه من القراءة. وقد استغربتُ كيف لعاقلٍ أن يرى هذا، ثمّ يعودَ ليدافعَ عنه، وهو يعرف أنّه يكذب! لقد كانت الفلسفةُ التي اكتشفتُها بلا أخلاق (ethics)، ولا أعرف ما هي الفلسفة المجرّدة من الأخلاق! والقولَ "إنّ الأخلاق نسبيّةٌ طبقيّةٌ حسب المصلحة" يعني كارثةً حضاريّةً وتشويهًا فظيعًا. إلاّ أنّ الأهمّ من هذا الإشكال الفلسفيّ كان الاعتقادَ الشيوعيَّ السائد بأنّ الديمقراطيّة "تقليعة برجوازيّة،" بينما رأيي كان أنّ الاشتراكيّة غيرُ ممكنةٍ بلا ديمقراطيّة، وإلاّ تحوّلتْ إلى رأسماليّةِ دولةٍ فاسدةٍ وبيروقراطيّةٍ وغيرِ مُنتِجة. وكنتُ في تلك الفترة قد باشرتُ قراءةَ أمثال الفرد روزنبرغ (تاريخ الديمقراطية)، الذي نظر إلى ماركس من زاوية كونِه ديمقراطيّاً متأثّرًا بالحركة الديمقراطيّة الفرنسيّة.
من ناحيةٍ أخرى، كان مهمّاً لي، كَشابٍّ، الصدامُ السياسيّ مع المسألة القوميّة داخل الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، وكان ذلك مبكّرًا، أيْ قبل البريسترويكا والانهيار بسنوات. فقد خلّفَ موقفُ الحزب من المسألة القوميّة جروحًا في فترة "طفولتي السياسيّة": فحقُّ العودة لم يذكرْه الحزبُ قطّ، بل كان أوّلَ من ذكّرَ مرارًا بحقّ العودة في الكنيست الإسرائيليّ (منذ العام 1948 وحتّى العام 1996) هو ممثّلُ "التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ،" وكان هو أيضًا أوّلَ مَن لفظَ كلمةَ "نكبة" في بروتوكولات البرلمان. ولا نقول ذلك لتسجيل إنجازٍ شخصيّ بل ليدرك القارئُ عمقَ الفارق السياسيّ بيننا في حينه.
ومن نقاط الخلاف مع الشيوعيين الإسرائيليين رهانُهم في البداية على المشروع الإسرائيليّ كمشروعٍ "اشتراكيّ" وكنظامٍ "تقدّميّ،" في مقابل الرجعيّات العربيّة. لم يكن نقاشنا معهم للتسلية، ولا كان يجري تكبّرًا أو ترفّعًا، بل كان عاطفيّاً وجدانيّاً إلى حدٍّ كبير، لأنّه وقع مع جيلٍ من الآباء، ومنهم والدي. فوالدي كان ناشطًا شيوعيّاً قديمًا، وكان مثقّفًا وقارئًا؛ وخلافًا لما نُشر، فإنه لم يكنْ قائدًا حزبيّاً، بل مناضلٌ نقابيّ. وبوصفه عضوًا في اللجنة القوميّة فقد دافعَ عن قريته بالسلاح حين احتلّتها عصاباتُ الهاجاناه؛ لكنْ ألقيَ القبضُ عليه وهو يوزِّعُ مناشيرَ "عصبة التحرّر الوطنيّ" التي ضمّتِ الشيوعيين العربَ وكانت تدعو إلى قبول قرار التقسيم وتنفيذه، وتدعو الجيوشَ العربيّة إلى الانسحاب. والمهمّ أنّ المنشور ذاته دعا الفلسطينيّين إلى البقاء في بيوتهم، خلافًا لموقف الأنظمة المتساهل مع خروجهم ريثما يتحقّق النصر ضدّ الصهاينة. كلّ هذا تمّ بعد خطاب غروميكو في الأمم المتحدة الذي أيّدَ التقسيمَ، وقد كان الشيوعيون ضدّ قرار التقسيم قبل الخطاب بليلةٍ واحدة! وطبعًا أطلق جيش الإنقاذ سراحه مع إخوانه في ما بعد. ولم يكن والدي في الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ بل في عصبة التحرّر الوطنيّ، وقد انتمى إلى جيل اعتبر موقفَه إلى جانب السوفييت أهمَّ نضالٍ ممكن، وكان ورفاقه مستعدّين للتضحية بحياتهم لأنّهم رأوْا أنفسَهم جزءًا من مشروعٍ كونيٍّ اشتراكيٍّ صاعد. وفي نهاية الأمر، كان عليه أنْ يناقشَ قناعاتِه هذه مع ابنه، لذلك كان نقاشًا عاطفيّاً. وتستطيع أنْ تتخيّلَ موقفي من ذلك، مع محبّتي لأعضاء ذلك الجيل، ومن دون تخوينهم طبعًا: فأخطاؤُهم نسبيّة، وهم لم يحْكموا بلدًا. طبعًا هم مازالوا يؤكّدون الآن "أنّ الأيّام أثبتتْ صحّة" موقفهم بقبول التقسيم في حينه، ولكنّ ذلك كان موقفًا خاطئًا في رأيي. وكان يجب أن يكونَ مطلبُهم هو أنْ يحاربَ العربُ الصهيونيّةَ، لا أن ينسحبوا من مواجهتها؛ وأنْ يرفضوا قرارَ التقسيم، لا أن يقبلوه (وليس صحيحًا أنهم لو قبلوه لنفّذتْه إسرائيلُ أصلاً). وكملاحظةٍ شخصيّةٍ، فإني أعتقد أنّ والدي توفّي وهو على رأيي.
* بعد استطرادك البليغ عن الشيوعيين أعود إلى ملاحظتي، وهي أنك تحدّثتَ، في غير مناسبة، عن مشكلتك الجذريّة مع القوميّة...
ـ ليس مع القوميّة بل مع الإيديولوجيا القوميّة التي انتشرتْ عربيّاً أيضًا، وسأشرحُ لك ذلك بعد الانتهاء من الإجابة عن سؤال يسري السابق! اذًا، الصِّدامُ الأوّلُ [مع الشيوعيّة] كان مع فكرها الفلسفيّ، ولا سيّما الأخلاقيّ الفلسفيّ؛ فلم أتمكّنْ من تقبّل أنّ الأخلاقَ هي مصلحةُ "الطبقة،" التي تحوّلتْ إلى مصلحة الجماعة العصبويّة (وكأنّنا في حركةٍ باطنيّة!). ولم أر الأخلاقَ انصياعًا إلى حتميّات الطبيعة والتاريخ، كما ورد في "الشيوعيّة العلميّة،" بل هي عكسُ ذلك: إنّها ما يحرّر النفسَ الإنسانيّةَ بفصل الحريّة عن الضرورة. وهذا الأمرُ بالنسبة إليّ هو كالحدّ الفاصل بين الخير والشرّ، ولا نقاشَ فيه. فالحسمُ الأخلاقيّ حسمٌ حرٌّ، وإلاّ فلن تقوم مجتمعاتٌ بشريّةٌ تستحقّ الذكر، ونكونَ همَجًا. وهذا ما أَعدُّه الجانب التنويريّ في الفكر السياسيّ.
أمّا الصِدام الثاني مع الشيوعيّين فكان، كما ذكرتُ، يدور حول القضيّة القوميّة، وعدمِ فهمهم لأهميّةِ البُعد الحضاريّ الإسلاميّ أيضًا. وهذا الخلاف لم يكن نظريّاً؛ فقد صدرتْ تصريحاتٌ وأبحاثٌ لهم تحْمل هذا الموقف. والأهمُّ من ذلك كان قيامهم بممارساتٍ واضحة تنفي وجودَ أمّةٍ عربيّة.
وكان ثمة خلافٌ مع الشيوعيين حول القضيّة الوطنيّة أيضًا. فقد كانوا يروْن أنّ التقسيمَ هو الحلُّ الواقعيُّ الوحيدَ لانسحاب الاستعمار البريطانيّ، ثمّ حوّلوا "الحلَّ الواقعيَّ الوحيد" إلى أمرٍ فكريٍّ مبدئيّ هو: "حقُّ تقرير المصير للشعبين،" و"مبدأُ دولتين لشعبين" الذي يهتفون به حاليّاً في اجتماعاتهم. ولم يكن دافع الشيوعيّين العرب، على الأقلّ عند موافقتهم على قرار التقسيم، مبدأَ "دولتين لشعبين،" بل الواقعيّة السياسيّة وأولويّة خروج الإنجليز؛ لكنْ تمّ تبنّي العنصر الصهيونيّ في الفكر الشيوعيّ، الأمرُ الذي جعلهم يؤيّدون قانون العودة الصهيونيّ في البرلمان، ويعتبرون الاستيطانَ الكولونياليّ مسألةَ "حق تقرير المصير للشعب اليهوديّ"!
ثمّ كان موقفُهم من عبد الناصر حين لم يكنْ على وِفاق مع السوفييت؛ فموقفُهم في قرارات ومؤتمرات الحزب من المقاومة الفلسطينيّة التي اعتبروها ـ حين نشوئها ـ حركاتٍ برجوازيّةً صغيرةً وفاشيّةَ الطابع. وفي هذا السياق لا أُغفل بعضَ الأمور الرمزيّة أيضًا، كوقوفهم عند عزف "نشيد هاتيكفا" [النشيد الوطنيّ الإسرائيليّ] في افتتاح المؤتمرات، أو قول دستورهم إنّ الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ هو حزبُ الوطنيّة الإسرائيليّة والأمميّة البروليتاريّة!
هذه هواجسُ شابٍّ في السابعة عشرة من عمره، جاء إلى الحزب الشيوعيّ بشكلٍٍ يكاد يكون طبيعيّاً من البيت، ولأنّه لم يكن ثمة خيارٌ حزبيٌّ آخرُ أمام اندفاعه الوطنيّ، إذ مُنِعَتْ في حينه التنظيماتُ العربيّةُ، فاكتشفَ أنّه ملزمٌ برفع العلم الإسرائيليّ في الأوّل من أيّار! أنا الفلسطينيّ، المسلوبةُ أرضُه، ملزَمٌ برفع العلم الإسرائيليّ، أو السيرِ خلفه في مظاهرة؟! ثمّ يقولون إنّهم [الشيوعيين] حافظوا على اللغة العربيّة هناك، علمًا أنّ العربيّة لم تكن في خطر الانقراض يومًا: فتعليمُ الإنسان العربيّ كان، منذ اليوم الأوّل في إسرائيل، باللغة العربيّة، لأنّ إسرائيل لم ترغبْ أصلاً في دمجِ العرب! وإذا كان الحزبُ قد أعطى مِنبرًا لبعض الأدباء العرب (وهذا صحيح)، إلاّ أنّه اضطلعَ بمهمةٍ تاريخيّة خطيرة، هي تكييفُ العرب في إسرائيل مع وجودِ هذه الدولة ومع وضعهم الجديد. ومن هنا امتلأتُ بالرفض حتى الانفجار، وتبلوَرتْ مواقفي أكثرَ فأكثرَ في الحركة الطلابيّة في الجامعات والنقاشات والتجربة، ثمّ في نقاش الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وأخطاء التيّار القوميّ العربيّ... إلى أنْ وصلتُ إلى طرحي هذا.
أما بالنسبة إلى سؤالك يا سماح حول القوميّة، وبالعودة إلى كتاباتي مثل: مساهمة في نقد المجتمع المدنيّ والمسألة العربيّة، ومؤخّرًا كتاب أن تكون عربيّاً في أيّامنا، فإنه يمْكن تلمّسُ فكرٍ جديد. ففي اعتقادي أنّه يتمّ التعاملُ مع القوميّة كانتماءٍ حديثٍ يسيّسُ الثقافةَ، وأساسُها اللغة. وإنني أودّ أن أرسمَ خطّاً أحمرَ عند تحويلِ القوميّة إلى إيديولوجيا اجتماعيّة، مثل أنْ يكونَ الموقفُ من المرأة موقفًاً قوميّاً، فماذا يعني هذا؟ إنّ هذه الممارسة تحوّلُ القوميّةَ إلى إيديولوجيا شموليّةٍ، أو إلى تقاليدَ أهليّةٍ فولكلوريّةٍ من النوع الذي يَستنتِج من "روح الشعب" موقفًا متعلّقًا بالعامل وبالمرأة وبالرجل وبالذكوريّة... إلخ. هنا أرسم الخطَّ الأحمرَ: المشكلةُ ليست في القوميّة، بل في تحويلها إلى منظومةٍ إيديولوجيّةٍ لديها أجوبةٌ عن كافة القضايا. إنّ تحويلَ الثقافة إلى قوميّة، ومنها إلى أمّة، هي خطوةٌ كبيرةٌ في التاريخ تكون اللغةُ فيها هي الأساس. هنا وَجَبَ التحديدُ: هل أنتَ قوميٌّ ديمقراطيٌّ، أمْ قوميٌّ فاشيٌّ، أمْ قوميٌّ اشتراكيٌّ، أمْ غير ذلك؟ أرى أنّه حالَ التحوّل من قوميّةٍ إلى أمّةٍ ذاتِ سيادة، وَجَبَ أنْ تصبح هذه الأمةُ أمّةَ المواطنين بغضِّ النظر عن قوميّاتهم. من هنا أبحث في الديمقراطيّة والعلمانيّة والاشتراكيّة وغيرها، لا بوصفي قوميّاً بل كباحثٍ بأدواتٍ علميّة، وكديمقراطيّ يؤمنُ بالعدالة الاجتماعيّة. إنّ رفضَ تحويل الفكر القوميّ إلى إيديولوجيا شموليّةٍ هو ما يميّزنا كقوميين ديمقراطيين ذوي نزعةٍ مساواتيّةٍ نأخذها من تراث اليسار وتقاليده وفكره ونطوّرها (كما طُوّرَتِ الليبراليّةُ من ليبراليّةٍ اقتصاديّةٍ إلى حقوقٍ سياسيّة وفُصِلتْ عن النيوليبراليّة). ولا أرى مانعًا (بل أرى واجبًا) في تبنّي فكرة العدالة الاجتماعيّة، أو الفكرةِ الديمقراطيّة الليبراليّة، وتطويرهما. ففي الفكرة القوميّة في حدّ ذاتها، لا جوابَ عن سؤال المساواةِ والعدالةِ الاجتماعيّة وغيرهما؛ وإذا حاولنا مثلاً إيجادَ جوابٍ "قوميّ خالص" لقضيّةِ المرأة، من دون فكرٍ ديمقراطيّ أو تقدّميّ، فلن يكونَ أكثرَ من فكرةٍ ذكوريّةٍ تتحدّث عن "دور المرأة القوميّ في الحمْل أو في دعم الرجل في الدفاع عن الوطن"! ولا تنسَ أنّ الفكرَ القوميّ لا يعتمد على نصٍّ يؤسِّس لأصوليّة، أو يُتيح ـ عبرَ إعادةِ قراءته ـ استنباطَ أحكامٍ ومعاييرَ جديدةٍ، كما قد يحصل مع الفكر الدينيّ.
إذًا، ما إنْ تحسم المسألةَ القوميّةَ كنهجٍ حديثٍ في تنظيم المجتمع، فيجب ألاّ يستحوِذَ عليكَ الموضوعُ في كلّ مسألة. عليكَ أنْ تفكّر بالديمقراطيّة كديمقراطيّ، وبالعدالة الاجتماعية كمَن يؤمِنُ بها، وعليكَ تطبيقُهما في هذا الإطار السياسيّ القوميّ وفي إطار الحضارة الإسلاميّة ـ هذا الإطار الذي ما لم تحقّقْه الشعوبُ العربيّةُ، في الوعي على الأقلّ، فسوف تبقى فريسةَ التخلّف من جهة، والتدخّل الاستعماريّ من جهة أخرى.
* بتعريفك، القوميّة هي انتماءٌ ثقافيٌّ ينتمي إليه الناس طوعًا...
- لا، ليس طوعًا... ولكنّنا لا نولدُ فيه كهويّةٍ، بل كمعطًى لغويٍّ ثقافيٍّ بيئيٍّ... الخ. غير أننا نحوّله إلى قوميّةٍ تسعى إلى التحوّل إلى أمّة؛ فالأمّة تُبنى، والهويّاتُ تُبنى.
* الفلسطينيّ يسمّي وطنَه: "الْبْلادْ." ما الوطنُ عندَك؟
ـ مثلَ أيِّ مجتمعٍ ريفيٍّ غير مكتملِ التكوين قوميّاً قبلَ نشوءِ وسائل الاتّصال الحديثة، كان "البلدُ" في نظر الفلسطينيّ هو القريةَ أو الضيعة. ولكيْ يتكلّمَ عن الوطن بأكمله فقد استخدَمَ صيغة الجمع، "البلاد." أمّا المستوطِنُ الصهيونيّ فلَمْ يعرفْ هذا التنوّعَ المحليّ، واستوطَنَ منذ البداية بهدف بناء أمّةٍ موحَّدةٍ، يُوحِّد من خلالها الأرضَ والتاريخَ واللغة. وبهذا، حوَّل تنوُّعَه القائمَ في الخارج (فقد جاء من "بلادٍ" مختلفة) إلى "البلد" في صيغة المفرد.
في محاولتي بناءَ ثقافةٍ وفكرٍ نقيضيْن، رددتُ على الصهيونيّ في سيرتي الفرديّة نفسها. ومن هنا سكنْتُ في القدس الشرقيّة، وعملتُ في بيرزيت ورام الله؛ وسكنتُ أيضًا في حيفا، متجاوِزًا ما سُمّيَ "الخطَّ الأخضر." كما أنني تواصلتُ مع الوطن العربيّ. وأنا، شخصيّاً، أستخدمُ تعبير "البلد" لفلسطين كلِّها، وأستخدمُ الجمعَ "البلاد" للوطن العربيّ؛ فالوطنُ العربيُّ هو مفهومٌ يوحِّد بلداننا العربيّة أجمع.
* وماذا يعني أن تكون عربيّاً قوميّاً يعيش تحت الاحتلال الإسرائيليّ؟
ـ هذا السؤال شاملٌ، والإجابة عنه تشير إلى كلّ ما قمتُ به حتّى الآن. فجزءٌ أساسٌ من نشاطي ونتاجي كان ردَّ فعلٍ على هذا الواقع. وقد ذكرتُ تعريفي لمعنى "قوميّ"؛ ولو كان ثمة تمييزٌ عربيٌّ بين national وnationalist لاستخدمتُه. وهناك أبعادٌ أُخرى في تشكيل ردِّ الفعل الفكريِّ والسياسيّ على الواقع، مثل الموقف الديمقراطيّ واليساريّ (بالمعنى الذي حدّدتُه لنفسي أيضًا، وهو الموقفُ المؤيّدُ للعدالة الاجتماعيّة). ولكنْ، في حالة العيش في الداخل، نعم هنالك تناقضٌ بين الهويّة العربيّة الفلسطينيّة في حدّ ذاتِها وبين الواقع المَعيش